كان من عادة الشعراء العرب أن يبدأوا قصائدهم بالغزل ، وقد تكون القصيدة كلها قائمة عليه ، وروت كتب السيرة أن كعب بن زهير ابن أبى سلمى لما قدم على النبى صلى الله عليه وسلم تائبا قال قصيدته التى جاء فيها :
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول * متيم أثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين اذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذى ظلم اذا ابتسمت * كأنه منهل بالراح معلول ويقال : إن النبى صلى الله عليه وسلم أعجب بها والبسه بردته .
وثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع الشعر فى المسجد من حسان بن ثابت ، ودعا أن يؤيده الله بروح القدس كما رواه البخارى، وجاء فى الأدب المفرد للبخارى أنه عليه الصلاة والسلام استنشد عمرو بن الشريد من شعر أمية بن أبى الصلت ، فأنشده مائة قافية ، وروى أنه كان يستزيده عقب كل قافية بقوله :
هيه ، كما رواه مسلم ، وكاد أمية أن يسلم ، أى فى شعره ، كما رواه البخارى ومسلم . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن من الشعر لحكمة " كما رواه البخارى، وقال فى شعر لبيد بن ربيعة : أصدق كلمة قالها شاعر : كلمة لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل ، كما رواه البخارى ومسلم 0 ومن الصحابة، غير حسان ، قال الشعر عبد الله بن رواحة وغيره ، ولم ينكر عليهم أحد .
وإلى جانب هذه النصوص التى تفيد جواز قول الشعر وسماعه ، جاءت نصوص تفيد كذلك النهى عنه والتنفير منه ، فقد روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لأن يمتلىء جوف رجل قيحا يريه خير من أن يمتلىء شعرا " معنى يريه يأكل جوفه ويفسده ، مأخوذ من الورى ، وهو داء يفسد الجوف . وروى البغوى من حديث مالك بن عمير السلمى أنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الشعر فنهاه عنه . وجاء فيه "فإن رابك منه شىء فأشبب بامرأتك وامدح راحلتك " 0 وفى الأدب المفرد اللبخارى حديث " أن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها" وسنده حسن . وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ " أعظم الناس فرية رجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها " وصححه ابن حبان .
كذلك وردت فى الشعر نصوص تفصل حكمه ، فقد أخرج أبو يعلى بإسناد جيد مرفوعا " الشعر كلام ، فحسنه حسن وفى وقبحة قبيج " وقريب من هذا الكلام جاء عن عائشة وعبد الله بن عمر كما رواه البخارى فى الأدب المفرد ، واشتهر عن الإمام الشافعى .
إزاء هذه المجموعات الثلاث من النصوص لم يقل العلماء بمدح الشعر مطلقا ولا بذمه مطلقا بل حملوا المطلق على المقيد ، أو العام على الخاص ، فقالوا : ما كان منه حسنا فهو حسن ، وما كان منه قبيحا فهو قبيح ، ويحدد الحسن والقبيح من الشعر قول ابن حجر فى فتح البارى "ج 13 ص 155 " : والذى يتحصل من كلام العلماء فى حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه فى المسجد وخلا عن هجو وعن الإغراق فى المدح والكذب المحض والتغزل بمن لا يحل ، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك .
وبناء على هذا يكون ما سمعه النبى صلى الله عليه وسلم من الشعر هو ما كان حسنا، وشعر كعب بن زهير وإن كان فيه تغزل فهو تغزل حلال . وقد تحدث العلماء فى الغزل الحلال ، وخلاصة كلامهم : أن الشاعر إذا لم يقصد بالتشبيب امرأة معينة ، أى كان مرسلا ، أو اختلق لها اسما كسعاد وسلمى غير مقصود به معينة فهو جائز، فإن قصد به امرأة معينة وكانت على قيد الحياة فهو حرام إن كانت أجنبية عنه ، لأنه يهيج إليها، كما يحرم وصف الخمر وصفا يغرى بها ، وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن تنعت المرأة المرأة لزوجها ، أما غير الأجنبية كزوجته فقد اختلف العلماء فى حكمه ، وأختار القول بجوازه ، على ألا يتخذ الشعر ديدنا يقصر عليه أكثر أوقاته ، فإن المواظبة على اللهو جناية ، وكما أن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة كذلك بعض المباحات .